تفسير ابن كثير تفسير الصفحة 57 من المصحف



تفسير ابن كثير - صفحة القرآن رقم 57

57 : تفسير الصفحة رقم 57 من القرآن الكريم

** إِذْ قَالَ اللّهُ يَعِيسَىَ إِنّي مُتَوَفّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ وَمُطَهّرُكَ مِنَ الّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الّذِينَ اتّبَعُوكَ فَوْقَ الّذِينَ كَفَرُواْ إِلَىَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمّ إِلَيّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمّا الّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدّنْيَا وَالاَخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مّن نّاصِرِينَ * وَأَمّا الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الظّالِمِينَ * ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الاَيَاتِ وَالذّكْرِ الْحَكِيمِ
اختلف المفسرون في قوله تعالى: {إني متوفيك ورافعك إليّ} فقال قتادة وغيره: هذا من المقدم والمؤخر, تقديره إني رافعك إلي ومتوفيك, يعني بعد ذلك. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: إني متوفيك, أي مميتك. وقال محمد بن إسحاق عمن لا يتهم, عن وهب بن منبه, قال: توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه, قال ابن إسحاق: والنصارى يزعمون أن الله توفاه سبع ساعات, ثم أحياه. وقال إسحاق بن بشر, عن إدريس عن وهب: أماته الله ثلاثة أيام, ثم بعثه, ثم رفعه. وقال مطر الوراق: إني متوفيك من الدنيا, وليس بوفاة موت, وكذا قال ابن جرير: توفيه هو رفعه, وقال الأكثرون: المراد بالوفاة ههنا ـ النوم, كما قال تعالى: {وهو الذي يتوفاكم بالليل} الاَية. وقال تعالى {الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامه} الاَية, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم, يقول إذا قام من النوم: «الحمد الله الذي أحيانا بعد ما أماتنا» الحديث, وقال تعالى: {وبكفرهم وقولهم على مريم بهتاناً عظيماً * وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ـ إلى قوله ـ وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاّ حكيماً * وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيد} والضمير في قوله {قبل موته} عائد على عيسى عليه السلام, أي وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى, وذلك حين ينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة على ما سيأتي بيانه, فحينئذ يؤمن به أهل الكتاب كلهم, لأنه يضع الجزية ولا يقبل إلا الإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي, حدثنا أحمد بن عبد الرحمن, حدثنا عبد الله بن أبي جعفر, عن أبيه, حدثنا الربيع بن أنس, عن الحسن أنه قال في قوله تعالى: {إني متوفيك} يعني وفاة المنام, رفعه الله في منامه. قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود «إن عيسى لم يمت, وإنه راجع إليكم قبل يوم القيامة» وقوله تعالى: {ومطهرك من الذين كفرو} أي برفعي إياك إلى السماء {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام, لما رفعه الله إلى السماء, تفرقت أصحابه شيعاً بعده, فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته, ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله, وآخرون قالوا: هو الله, وآخرون قالوا: هو ثالث ثلاثة. وقد حكى الله مقالاتهم في القرآن ورد على كل فريق, فاستمروا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة, ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له قسطنطين, فدخل في دين النصرانية, قيل: حيلة ليفسده, فإنه كان فيلسوفاً, وقيل: جهلاً منه إلا أنه بدل لهم دين المسيح وحرفه, وزاد فيه ونقص منه, ووضعت له القوانين, والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة, وأحل في زمانه لحم الخنزير, وصلوا له إلى المشرق, وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع, وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون, وصار دين المسيح دين قسطنطين إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثني عشر ألف معبد, وبنى المدينة المنسوبة إليه, واتبعه الطائفة الملكية منهم, وهم في هذا كله قاهرون لليهود, أيدهم الله عليهم, لأنهم أقرب إلى الحق منهم, وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله, فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم, فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق, كانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض, إذ قد صدقوا الرسول النبي الأمي العربي, خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق, الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق, فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته, مع ما قد حرفوا وبدلوا, ثم لو لم يكن شيء من ذلك, لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة, ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين, فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها, واجتازوا جميع الممالك, ودانت لهم جميع الدول, وكسروا كسرى, وقصروا قيصر وسلبوهما كنوزهما, وأنفقت في سبيل الله كما أخبرهم بذلك نبيهم عن ربهم عز وجل في قوله: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً, يعبدونني لا يشركون بي شيئ} الاَية, فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقاً, سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤوهم إلى الروم فلجؤوا إلى مدينتهم القسطنطينية, ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة. وقد أخبر الصادق الصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال, ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً, لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها, وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً, ولهذا قال تعالى: {وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة ثم إليّ مرجعكم فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون * فأما الذين كفروا فأعذبهم عذاباً شديداً في الدنيا والاَخرة وما لهم من ناصرين} وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى, عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي, وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك, وفي الدار الاَخرة عذابهم أشد وأشق {وما لهم من الله من واق} {وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم} أي في الدنيا والاَخرة, في الدنيا بالنصر والظفر, وفي الاَخرة بالجنات العاليات {والله لا يحب الظالمين}.
ثم قال تعالى: {ذلك نتلوه عليك من الاَيات والذكر الحكيم} أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفيه أمره, وهو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ونزله عليك من اللوح المحفوظ, فلا مرية فيه ولا شك, كما قال تعالى في سورة مريم {ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولد سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} وههنا قال تعالى:)

** إِنّ مَثَلَ عِيسَىَ عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقّ مِن رّبّكَ فَلاَ تَكُنْ مّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ * إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقّ وَمَا مِنْ إِلَـَهٍ إِلاّ اللّهُ وَإِنّ اللّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ
يقول جل وعلا: {إن مثل عيسى عند الله} في قدرة الله حيث خلقه من غير أب {كمثل آدم} حيث خلقه من غير أب ولا أم بل {خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون} فالذي خلق آدم من غير أب, قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى, وإن جاز ادعاء البنوة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب, فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى, ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل, فدعواها في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً, ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى, وخلق حواء من ذكر بلا أنثى, وخلق عيسى من أثنى بلا ذكر, كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى, ولهذا قال تعالى في سورة مريم {ولنجعله آية للناس} وقال ههنا: {الحق من ربك فلا تكن من الممترين} أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه, وماذا بعد الحق إلا الضلال. ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم, أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان {فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} أي نحضرهم في حال المباهلة {ثم نبتهل} أي نلتعن {فنجعل لعنة الله على الكاذبين} أي منا أو منكم. وكان سبب نزول هذه المباهلة وما قبلها من أول السورة إلى هنا في وفد نجران, أن النصارى لما قدموا فجعلوا يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البنوة والإلهية, فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم, قال ابن إسحاق في سيرته المشهورة وغيره: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى نجران ستون راكباً, فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم وهم: العاقب واسمه عبد المسيح, والسيد وهو الأيهم, وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل, وأويس بن الحارث, وزيد, وقيس, ويزيد ونبيه, وخويلد, وعمرو, وخالد, وعبد الله, ويُحَنّس, وأمر هؤلاء يؤول إلى ثلاثة منهم وهم العاقب, وكان أمير القوم وذا رأيهم وصاحب مشورتهم, والذي لا يصدرون إلا عن رأيه, والسيد وكان عالمهم وصاحب رحلهم ومجتمعهم, وأبو حارثة بن علقمة وكان أسقفهم وحبرهم وإمامهم وصاحب مدارسهم, وكان رجلاً من العرب من بني بكر بن وائل, ولكنه تنصر فعظمته الروم وملوكها وشرفوه, وبنوا له الكنائس وأخدموه لما يعلمونه من صلابته في دينهم, وقد كان يعرف أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وشأنه مما علمه من الكتب المتقدمة, ولكن حمله جهله على الاستمرار في النصرانية لما يرى من تعظيمه فيها وجاهه عند أهلها, قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن جعفر بن الزبير, قال: قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر, عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب, قال: يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم: وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «دعوهم» فصلوا إلى المشرق, قال: فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة, والعاقب عبد المسيح, والسيد الأيهم وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم يقولون: هو الله, ويقولون: هو ولد الله, ويقولون: هو ثالث ثلاثة, تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً. وكذلك قول النصرانية, فهم يحتجون في قولهم هو الله, بأنه كان يحيى الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام, ويخبر بالغيوب, ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً, وذلك كله بأمر الله. وليجعله الله آية للناس, ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله يقولون: لم يكن له أب يعلم, وقد تكلم في المهد بشيء لم يسمعه أحد من بني آدم قبله, ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى: فعلنا وأمرنا وخلقنا وقضينا فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت, ولكنه هو وعيسى ومريم ـ تعالى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً ـ وفي كل ذلك من قولهم: قد نزل القرآن, فلما كلمه الحبران, قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم «أسلما» قالا: قد أسلمنا, قال: «إنكما لم تسلما فأسلما». قالا: بلى قد أسلمنا قبلك. قال: «كذبتما يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير». قالا: فمن أبوه يا محمد ؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما, فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية منها, ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال: فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك, فقالوا: يا أبا القاسم, دعنا ننظر في أمرنا ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه, ثم انصرفوا عنه, ثم خلوا بالعاقب, وكان ذا رأيهم فقالوا: يا عبد المسيح ماذا ترى ؟ فقال: والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل, ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم, ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط, فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم, وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم, فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم, فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم, فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم, قد رأينا ألا نلاعنك ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا, فإنكم عندنا رضا, قال محمد بن جعفر: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين» فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذ, رجاء أن أكون صاحبها, فرحت إلى الظهر مهجراً, فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر, سلم ثم نظر عن يمينه وشماله, فجعلت أتطاول له ليراني فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه, فقال «اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه». قال عمر: فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه. وقد روى ابن مردويه من طريق محمد بن إسحاق, عن عاصم بن عمر بن قتادة, عن محمود بن لبيد, عن رافع بن خديج: أن وفد أهل نجران قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم , فذكر نحوه, إلا أنه قال في الأشراف: كانوا اثني عشر, وذكر بقيته بأطول من هذا السياق, وزيادات أخر.
وقال البخاري: حدثنا عباس بن الحسين, حدثنا يحيى بن آدم, عن إسرائيل, عن أبي إسحاق, عن صلة بن زفر, عن حذيفة رضي الله عنه, قال: جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه, قال: فقال: أحدهما لصاحبه: لا تفعل فو الله لئن كان نبياً فلاعناه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا, قالا: إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً, فقال «لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين» فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال «قم يا أبا عبيدة بن الجراح» فلما قام, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أمين هذه الأمة» رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه من طرق عن أبي إسحاق السبيعي عن صلة, عن حذيفة, بنحوه وقد رواه أحمد والنسائي وابن ماجه من حديث إسرائيل عن أبي إسحاق, عن صلة, عن ابن مسعود بنحوه وقال البخاري: حدثنا أبو الوليد حدثنا شعبة عن خالد, عن أبي قلابة, عن أنس, عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, قال «لكل أمة أمين, وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح» وقال الإمام أحمد: حدثنا إسماعيل بن يزيد الرقي أبو يزيد, حدثنا فرات عن عبد الكريم بن مالك الجزري, عن عكرمة, عن ابن عباس, قال: قال أبو جهل قبحه الله, إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لاَتينه حتى أطأ على رقبته, قال: فقال «لو فعل لأخذته الملائكة عياناً, ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار, ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً», وقد رواه الترمذي والنسائي من حديث عبد الرزاق, عن معمر, عن عبد الكريم به, وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة قصة وفد نجران مطولة جداً, ولنذكره فإن فيه فوائد كثيرة, وفيه غرابة, وفيه مناسبة لهذا المقام, قال البيهقي: حدثنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد محمد بن موسى بن الفضل, قالا: حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب, حدثنا أحمد بن عبد الجبار, حدثنا يونس بن بكير, عن سلمة بن عبد يسوع, عن أبيه, عن جده, قال يونس ـ وكان نصرانياً فأسلم ـ: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم, كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان «باسم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب, من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران وأهل نجران أسلم أنتم, فإني أحمد إليكم إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب. أما بعد فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد, وأدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد, فإن أبيتم فالجزية, فإن أبيتم فقد آذنتكم بحرب, والسلام». فلما أتى الأسقف الكتاب وقرأه فظع به, وذعره ذعراً شديداً, وبعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة, وكان من همدان, ولم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم ولا السيد ولا العاقب, فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى شرحبيل فقرأه, فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك ؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة, فما يؤمن أن يكون هذا هو ذاك الرجل, ليس لي في أمر النبوة رأي, ولو كان في أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأيي واجتهدت لك, فقال الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى شرحبيل فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل, وهو من ذي أصبح من حمير, فأقرأه الكتاب وسأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل, فقال له الأسقف: تنح فاجلس, فتنحى عبد الله فجلس ناحية, فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس, فأقرأه الكتاب, وسأله عن الرأي فيه ؟ فقال له مثل قول شرحبيل وعبد الله, فأمره الأسقف, فتنحى فجلس ناحية, فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً, أمر الأسقف بالناقوس فضرب به, ورفعت النيران والمسوح في الصوامع, وكذلك كانوا يفعلون إذا فزعوا بالنهار, وإذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس ورفعت النيران في الصوامع, فاجتمعوا حين ضرب بالناقوس ورفعت المسوح, أهل الوادي أعلاه وأسفله. وطول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع, وفيه ثلاث وسبعون قرية وعشرون ومائة ألف مقاتل, فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسألهم عن الرأي فيه, فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني وعبد الله بن شرحبيل الأصبحي وجبار بن فيض الحارثي, فيأتونهم بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدنية وضعوا ثياب السفر عنهم, ولبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة وخواتيم الذهب, ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلموا عليه, فلم يرد عليهم, وتصدوا لكلامه نهاراً طويلاً, فلم يكلمهم وعليهم تلك الحلل وخواتيم الذهب, فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف, وكانا معرفة لهم, فوجدوهما في ناس من المهاجرين والأنصار في مجلس, فقالوا: يا عثمان ويا عبد الرحمن, إن نبيكم كتب إلينا كتاباً فأقبلنا مجيبين له, فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا, وتصدينا لكلامه نهاراً طويلاً, فأعيانا أن يكلمنا, فما الرأي منكما, أترون أن نرجع ؟ فقالا لعلي بن أبي طالب وهو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ فقال علي لعثمان وعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم, ويلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودون إليه, ففعلوا فسلموا عليه فرد سلامهم, ثم قال «والذي بعثني بالحق, لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم». ثم سألهم سألوة, فلم تزل به وبهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى, فإنا نرجع إلى قومنا ونحن نصارى, يسرنا إن كنت نبياً أن نسمع ما تقول فيه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ما عندي فيه شيء يومي هذا, فأقيموا حتى أخبركم بما يقول لي ربي في عيسى» فأصبح الغد وقد أنزل الله هذه الاَية {إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم ـ إلى قوله ـ الكاذبين} فأبوا أن يقروا بذلك, فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر, أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميل له, وفاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة, وله يومئذ عدة نسوة, فقال شرحبيل لصاحبيه: لقد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه وأسفله لم يردوا ولم يصدروا إلا عن رأيي, وإني والله أرى أمراً ثقيلاً, والله لئن كان هذا الرجل ملكاً مبعوثاً فكنا أول العرب طعناً في عينيه ورداً عليه أمره, لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بجائحة, وإنا لأدنى العرب منهم جواراً, ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه, لا يبقى منا على وجه الأرض شعر ولا ظفر إلا هلك, فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم ؟ فقال: أرى أن أحكمه, فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً, فقالا: له: أنت وذاك, قال: فلقي شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: وما هو ؟ فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح, فمهما حكمت فينا فهو جائز, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعل وراءك أحداً يثرب عليك» ؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي, فسألهما فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان من الغد أتوه, فكتب لهم هذا الكتاب «بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما كتب النبي محمد رسول الله لنجران ـ إن كان عليهم حكمه ـ في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء وسوداء ورقيق فاضل عليهم, وترك ذلك كله لهم على ألفي حلة, في كل رجب ألف حلة, وفي كل صفر ألف حلة» وذكر تمام الشروط وبقية السياق.
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع, لأن الزهري قال: كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح, وهي قوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاَخر} الاَية, وقال أبو بكر بن مردويه: حدثنا سليمان بن أحمد حدثنا أحمد بن داود المكي, حدثنا بشر بن مهران حدثنا محمد بن دينار, عن داود بن أبي هند, عن الشعبي, عن جابر, قال: قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب, فدعاهما إلى الملاعنة فواعداه على أن يلاعناه الغداة, قال: فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم, فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين, ثم أرسل إليهما, فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج, قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «والذي بعثني بالحق لو قالا: لا, لأمطر عليهم الوادي ناراً» قال جابر, وفيهم نزلت {ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم} قال جابر {أنفسنا وأنفسكم} رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب {وأبناءن} الحسن والحسين {ونساءن} فاطمة. وهكذا رواه الحاكم في مستدركه عن علي بن عيسى, عن أحمد بن محمد الأزهري, عن علي بن حجر, عن علي بن مسهر, عن داود بن أبي هند به بمعناه, ثم قال: صحيح على شرط مسلم, ولم يخرجاه هكذا قال وقد رواه أبو داود الطيالسي, عن شعبة, عن المغيرة عن الشعبي مرسلاً, وهذا أصح, وقد روي عن ابن عباس والبراء نحو ذلك, ثم قال الله تعالى: {إن هذا لهو القصص الحق} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد {وما من إله إلا الله, وإن الله لهو العزيز الحكيم * فإن تولو} أي عن هذا إلى غيره {فإن الله عليم بالمفسدين} أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد والله عليم به, وسيجزيه على ذلك شر الجزاء وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ونعوذ به من حلول نقمته.